رمضان.. معيار التوفيق والخذلان .. يُؤمَر المؤمن بالإمساك عن شهواته ما يناهز الخمسَ 10 ساعة؛ تصليحً للقلب من أي شيء يزاحمه حتى يخلُص لله ويعمُرَ بذكرِه وتأمُّلِ كلامه. ويجتمع المؤمنون كلَّ ليلة قياماً لله إيتي يرجون رحمته ويخافون عذابه، فيكون اجتماعهم عوناً على سلوك سبيل المتقين. وتُقام باحتجاز أنفاس الشياطين، وتضيَّقُ مجاريهم من ابن آدم، وتكبَّل أياديهم عن الإضلال؛ ليكمُل تحلِّي المؤمنين بطاعاتهم، ويُخلَّى بينهم وبين خالقهم. ويترقَّب المؤمن ليلة القدر، ليختصر فيها الأزمنة، ويمتلك بالعبادة في ليلتها أجورَ عبادة 1000 شهر، لكن هي خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ [القدر: ٣].

رمضان.. معيار التوفيق والخذلان

وتُضاعف الأجور مما يحث على كثير من القربات، فليس سقف المضاعفة متوقفاً عند 700 ضعف، لكن وجّهُ الصوم أعظم من ذاك، والله وحده مَن يدري أيَّ مجال يبلغه مكافأة الصائم، فقد أتى في الصحيحين من حديث أبي هريرة – رضي الله سبحانه وتعالى عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم صرح: «كل عمل ابن آدم له، الحسنة بعشر أمثالها إلى 700 ضعف، صرح الله سبحانه وتعالى: إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به». قال ابن رجب: (الأفعال كلها تُضاعَف بعشر أمثالها إلى 700 تضاؤل، سوى الصيام، فإنه لا ينحصر تضعيفه في ذاك العدد، بل يضاعفه الله عز وجل أضعافاً وفيرة بغير حصرِ عدد)

كل ذلك الإمداد الإلهي ابتلاءٌ من الله لعباده – والابتلاء يكون بالخير كما يكون بالشر، أفاد الله تعالى: وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْـخَيْرِ فِتْنَةً [الأنبياء: 35] – ليمتحن صدقَ تألُّههم، فأسباب الخير لائحة، وغير ممكن – والحالة تلك – أن يتخلَّف عن ركب الصالحين سوى من عُدِمَ التوفيق وتلفَّع بمروط الخذلان! تأمَّل برفقتي ذاك الحديث: جاء في الأدب المفرد من حوار والدي هريرة – رضي الله سبحانه وتعالى عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم رقى المنصة فقال: «آمين، آمين، آمين». قيل له: يا رسول الله، ما كنت تصنع هذا؟ فكان مما صرح: «أفاد لي جبريل: رَغِم منخارُ عبدٍ دخل عليه رمضان لم يُغفر له. فقلت: آمين».. ما تقدم قبضةٌ من أثر ذلك الحديث، فأنت ترى كيف أن جبريل دعا على مَن فهم رمضان ولم يغفر له لعلمه بعظيم تفضُّل الله على عباده في ذاك الشهر، وقد أمَّن النبي صلى الله عليه وسلم على دعائه، فنِسيطرَ الداعي والمؤمِّن.

وقد أتى في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تمنح من ذنبه»، وقال: «من نهض رمضان إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تتيح من ذنبه»

وتحدث: «من وقف على قدميه ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفِر له ما تمنح من ذنبه»؛ فهذه موجبات المغفرة قد دنت لكل من أراد اللهَ والدار الآخرة، فلا غرو أنْ رَغِم أنفُ من فهم رمضان ولم يُغفر له. رمضان إذاً معيار النجاح والخذلان، فبه يُدراية من وفقه الله لطاعته فأقبل عليه بقلبه وقالبه، وبه يتبيَّن من وَكَله الله إلى نفسه فلم تُجْدِ فيه طلائع التفوق ولم تأتِ به سحائب المغفرة إلى إذ تلقي رحلَها.

جمعيَّة القلب صميمُّ رمضان في العيش مع خطاب الله والنهل من معينه، ولا يؤتي هذا ثمرته ما لم يهيِّئ العبدُ قلبَه ليصير محلاً قابلاً لأنوار القرآن، وتهيئةُ القلب هي ما يسمّيه أهل التصرف: (جمعيَّة القلب) بأن يحاول المرء جاهداً في تخلية مهجته من الشواغل ويقيَه من كل ما يشتّته ويفرِّقه. وجمعيَّة القلب جديرةٌ بأن يصرف المرء بكثرةً من أوقاته لتحقيقها، فليس حالها كعمل الجوارح التي يملك المرء أطرَها على ما يرغب، لكن هي بحاجة إلى نزهة مُضنِية يكثر فيها المرء من الالتجاء إلى الله حتى يكرمه بها، ويتنعَّم حينئذٍ بهدايات القرآن. يقول ابن القيم: (الأجود في وقت قراءة القرآن جمعيَّة القلب والهمة على تدبُّرِه وتفهُّمِه حتى كأنَّ الله تعالى يخاطبك به، فتجمع قلبك على فهمه وتدبره والعزم على تنفيذ أوامره أعظمَ من هيئة قلبِ مَن جاءه كتابٌ من السلطان على ذاك)