العشر الأواخر من رمضان وليلة القدر .. الحمد لله رب العالمين وصلى الله على النبي الأمين محمد وعلى آله وصحبه أجمعين وبعد

فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر من رمضان، ما لا يجتهد في غيرها مسلم(1175) عن عائشة ومن هذا انه كان يعتكف فيها ويتحرى ليلة القدر خلالها البخاري (1913) ومسلم(1169) وفي الصحيحين من عصري عائشة رضي الله سبحانه وتعالى عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم ” كان إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله وسحب مئزره ” البخاري (1920) ومسلم (1174) ازداد مسلم وجَدَّ وشد مئزره .

العشر الأواخر من رمضان وليلة القدر

وقالت ” وسحب مئزره ” كناية عن الاستعداد للعبادة والاجتهاد فيها مبالغة على المعتاد، ومعناه التشمير في العبادات .

وقيل هو كناية عن اعتزال السيدات وترك الجماع .

وقولهم ” أحيا الليل ” أي استغرقه بالسهر في التضرع وغيرها . وقد جاء في خطبة عائشة الآخر رضي الله سبحانه وتعالى عنها : ” لا أعلم النبي صلى الله عليه وسلم تلا القران كله في ليلة ولا وقف على قدميه ليلة حتى الغداة ولا صام شهرا كاملا قط غير رمضان” سنن النسائي (1641) فيحمل قولها ” أحيا الليل ” على أنه يقوم أغلب الليل . أو يكون المعنى أنه يقوم الليل كله إلا أن يتغلغل ذلك العشاء والسحور وغيرهما فيكون المراد أنه يحيي معظم الليل .

وقولها : ” وأيقظ أهله ” أي : أيقظ أزواجه للقيام ومن الواضح أنه صلى الله عليه وسلم كان يوقظ أهله في كافة السنة، إلا أن كان يوقظهم لقيام قليل من الليل، ففي صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استيقظ ليلة فقال : ” سبحان الله ماذا أُنزل الليلة من الفتن ! ماذا أُتدنى من الخزائن ! من يوقظ صواحب القاعات ؟ يا رب كاسية في الكوكب عارية في يوم القيامة ” البخاري (1074) وفيه كذلك أنه كان عليه أفضل السلام يوقظ عائشة رضي الله عنها إذا أراد أن يوتر البخاري (952) . بل إيقاظه عليه الصلاة والسلام لأهله في العشر الأواخر من رمضان كان أهم منه في عموم السنة .

وفعله صلى الله عليه وسلم هذا يشير إلى اهتمامه بطاعة ربه، ومبادرته الآونة، واغتنامه الأزمنة الفاضلة .

فينبغي على المسلم الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم فإنه هو الأسوة والقدوة، والجِدّ والاجتهاد في عبادة الله، وألا يضيّع ساعات هذه الأيام والليالي، فإن المرء لا يعلم لعله لا يدركها مرة ثانية باختطاف هادم اللذات ومفرق الجماعات والموت الذي هو نازل بكل امرئ إذا أتى أجله، وانتهى وجوده في الدنيا، فحينئذ يندم حيث لا يفلح الندم .

ومن فضائل هذه العشر وخصائصها ومزاياها أن فيها ليلة القدر، قال الله سبحانه وتعالى : ( حم . والكتاب المبين . إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين . فيها يفرق كل أمر حكيم . أمراً من لدينا إنا كنا مرسلين . رحمة من ربك إنه هو السميع العليم ) سورة الدخان الآيات 1-6

أنزل الله القران الكريم في تلك الليلة التي وصفها رب العالمين بأنها مباركة وقد صح عن جماعة من السلف منهم ابن عباس وقتادة ومبتهج بن جبير وعكرمة ومجاهد وآخرين أن الليلة التي أنزل فيها القران هي ليلة القدر.

وكلامه ” فيها يفرق كل أمر حكيم ” أي تقدّر في تلك الليلة أحجام الخلائق على دومين العام، فيكتب فيها الأحياء والأموات والناجون والهالكون والسعداء والأشقياء والعزيز والذليل والجدب والقحط وكل ما أراده الله سبحانه وتعالى في تلك السنة .

والمقصود بكتابة مقادير الخلائق في ليلة القدر -والله أعلم – أنها تنقل في ليلة القدر من اللوح المحفوظ، قال ابن عباس ” أن الرجل يُرى يفرش الفرش ويزرع الزرع وأنه لفي الأموات ” أي انه كتب في ليلة القدر انه من الأموات . وقيل أن المعنى أن الأحجام إتضح في هذه الليلة للملائكة .

ومعنى ( القدر ) التعظيم، أي أنها ليلة ذات معدل، لهذه الخصائص التي اختصت بها، أو أن الذي يحييها يصير ذا قدر . وقيل : القدر التضييق، ومعنى التضييق فيها : إخفاؤها عن العلم بتعيينها، وصرح الخليل بن أحمد : إنما سميت ليلة القدر، لأن الأرض تضيق بالملائكة لكثرتهم فيها هذه الليلة، من ( القدر ) وهو التضييق، قال تعالى : ( وأما إذا ما ابتلاه فقدر فوق منه رزقه ) سورة الصباح /16، أي ضيق فوقه رزقه .

وقيل : القدر بمعنى القدَر – بفتح الدال – وهذا أنه يُقدّر فيها أحكام السنة مثلما أفاد هلم : ( فيها يفرق كل قضى حكيم ) . ولأن الكميات تقدر وتكتب فيها .

فسماها الله سبحانه وتعالى ليلة القدر وهذا لعظم قدرها وجلالة منزلتها لدى الله ولكثرة مغفرة الذنوب وستر العيوب فيها فهي ليلة المغفرة كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله سبحانه وتعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ( من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه ) البخاري ( 1910 )، ومسلم ( 760 ) .
وقد خص الله سبحانه وتعالى تلك الليلة بخصائص :

1- منها أنه نزل فيها القرآن، كما تقدّم، قال ابن عباس وغيره : أنزل الله القرآن جملة إحدى اللوح المحفوظ إلى منزل العزة من السماء الدنيا، ثم تدنى مفصلاً وفق الأحداث في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم . توضيح ابن عديد 4/529 .

2- وصْفها بأنها خير من ألف شهر في قوله : ( ليلة القدر خير من ألف شهر ) سورة القدر الآية/3

3- ووصفها بأنها مباركة في قوله : ( إنا أنزلنه في ليلة مباركة ) سورة الدخان الآية 3 .

4- أنها تهبط فيها الملائكة، والروح، ” أي يكثر تهبط الملائكة في تلك الليلة لكثرة بركتها، والملائكة يتنزلون مع تنخفض البركة والرحمة، كما يتنزلون لدى تلاوة القرآن، ويحيطون بحِلَق الذِّكْر، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيماً له ” أنظر تفسير ابن كثير 4/531 والروح هو جبريل عليه أفضل السلام وقد خصَّه بالذكر لشرفه .

5- ووصفها بأنها طمأنينة، أي سالمة لا يمكنه الشيطان أن يعمل فيها سوءا أو يعمل فيها أذى مثلما قاله مجاهد أنظر شرح ابن عديد 4/531، وتكثر فيها السلامة من العقوبة والعنف البدني بما يقوم العبد من طاعة الله عز وجل .

6- ( فيها يفرق كل وجّه حكيم ) الدخان /4، أي يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة كلف السنة وما يكون فيها من الآجال والأرزاق، وما يكون فيها إلى آخرها، كل وجّه محكم لا يبدل ولا يحول انظر توضيح ابن كثير 4/137،138 وكل هذا مما في مرة سابقة معرفة الله سبحانه وتعالى به وكتابته له، ولكن يُوضح للملائكة ما سوف يكون فيها ويأمرهم بفعل ما هو وظيفتهم ” أوضح صحيح مسلم للنووي 8/57 .